سياسة

نداء حرب : أيّ معيار يجب أن نعتمد عليه في تقييم الموقف؟

المهم ما يُنسج خلف الكواليس ويُنفذ على أرض الواقع

كتبت نداء حرب

ما وراء التصريحات: قراءة في المشهد السياسي والميداني للضفة الغربية

في أعقاب التصريحات الأمريكية الأخيرة التي نَظر إليها البعض بمثابة نفحة أمل، أو على الأقل مؤشراً على ضغطٍ أمريكي قد يحد من نوايا الضم “الإسرائيلية”، يبرز سؤال مصيري: أيّ معيار يجب أن نعتمد عليه في تقييم الموقف؟ أهو معيار الخطاب السياسي والدبلوماسي، أم معيار الوقائع الميدانية المتسارعة على الأرض؟

إن قراءة متأنية للمشهد تكشف أن الانشغال بهذه التصريحات، بغضّ النظر عن مضمونها، قد يكون إشكاليّاً إذا حوَل أنظارنا عن الحقيقة الجوهرية: فما يحدث على الأرض هو اللغة الوحيدة التي تفهمها “إسرائيل” وتتعامل بها، وهو المعيار الحقيقي الوحيد لأيّ تحليل.

معيار الأرض: حيث لا مكان للخطاب الدبلوماسي

ليس المهم حقيقةً طبيعة التصريحات الأمريكية، بل المهم ما يُنسج خلف الكواليس ويُنفذ على أرض الواقع، فبينما تدور النقاشات في الغرف المغلقة، تواصل آلة الاستيطان توسعها المريع، مُحولةً الضفة الغربية إلى كانتونات مُتفككة ومعزولة. لم يعد الأمر يقتصر على البؤر الاستيطانية العشوائية، بل هو مخطط منهجي لابتلاع الأرض وتهويد الجغرافيا.

الأمر لا يقف عند هذا الحد، فقد تجاوزت الآلة العسكرية “الإسرائيلية” قواعد الاشتباك القديمة، لم يعد اقتحام المدن والمخيمات حكراً على ساعات الليل، بل أصبح عملية علنية في وضح النهار، كرسالة واضحة بأن القيود قد رُفعت، كما أن حصار الاقتصاد الفلسطيني يكتمل بمصادرة أموال المقاصة، ومنع حركة العمال، وإحكام السيطرة عبر البوابات العسكرية التي تخنق حركة التنقل وتُذل المواطنين، هذه هي الوقائع التي تُشكل الحقيقة اليومية للفلسطيني، وهي أبعد ما تكون عن تفاؤل أي خطاب.

معيار العقلانية: الفجوة بين الراعي والمحمي

تُكشف الأزمة الحالية عن فجوة في الرؤى بين الحليفين الرئيسيين: الولايات المتحدة و”إسرائيل”، فالراعي الأمريكي يفكر بعقلانية الإمبراطورية التي تسعى لاستقرار نظامها الإقليمي؛ فهو يرى أن تهدئة المزاج العام، وإعادة تدوير الشرعية الدولية “لإسرائيل”، وامتصاص الغضب العربي أمران ضروريان لحماية المشروع نفسه على المدى الطويل.

بالمقابل، فإن اليمين “الإسرائيلي”، وخصوصاً تيار الصهيونية الدينية المتطرف، لا ينظر إلى الضفة الغربية من منظور براغماتي بحت، بل من منظور ديني-أيديولوجي ، فهو يرى أن ضمّ “أرض إسرائيل الكاملة” هو وعد إلهي وتكليف تاريخي، وهو بذلك “فوق كل اعتبار” سياسي أو دبلوماسي، هذه العقلانية الأسطورية تجعل الحسابات الأمريكية التقليدية عاجزة عن فهم أو احتواء الزخم الاستيطاني.

معيار التوقّع: انصراف الأمريكي وعودة الهجمة

ثمة درسٌ مرير نتعلمه من التاريخ الحديث: أن الانشغال الأمريكي بقضايا المنطقة متقلب ومؤقت، وما أن تنصرف الإدارة الأمريكية إلى أزماتها الداخلية أو ملفات دولية أخرى، حتى تعود “إسرائيل” إلى لعبتها بلا أي رادع، عندها، سنشهد ليس فقط تسارع وثيرة الاستيطان، بل وزيادة هجمات المستوطنين “غير الرسمية” التي توفر غطاءً للمخطط الرسمي.

“إسرائيل” لا تنتظر إشارة من أحد؛ إنها ترتب بمنهجية لحالة تكون فيها السيطرة على الضفة الغربية أمراً واقعاً لا رجعة فيه، من خلال خلق شبكة معقدة من السيطرة الأمنية والعزل الجغرافي والتبعية الاقتصادية، بحيث يصبح أي حديث عن دولة فلسطينية ضرباً من العبث.

معيار التنفيذ: رأس الحربة المسمى “رئيس الشاباك”

لا تكتمل هذه الصورة دون التركيز على الدور المحوري الذي سيلعبه رئيس الجهاز الأمني (الشاباك) الجديد، هذا المنصب ليس مجرد منصب إداري، بل هو أداة تنفيذ السياسات في أكثر المناطق حساسية، سيكون هذا الرئيس هو حجر الزاوية في ترجمة رؤية الصهيونية الدينية إلى إجراءات ميدانية على الأرض، من خلال توجيه الجهاز الأمني، يمكنه تسهيل توسع المستوطنات، وتليين الإجراءات ضد المستوطنين، وإعادة تعريف أولويات “الأمن” لخدمة الهدف السياسي الأسمى وهو الضمّ الفعلي، إن لم يكن الرسمي.

في الختام، فإن البوصلة الحقيقية لأي متابع يجب أن تكون متجهة دوماً صوب الأرض، وليس صوب صالونات الدبلوماسية أو بيانات التهدئة، التصريحات تأتي وتذهب، بينما الحقائق القائمة والوقائع الملموسة تتراكم لتشكل تاريخاً جديداً، إنها معركة وجود، لا مكان فيها للوهم أو لقراءة المشهد من خلال عدسات مغايرة، فالحقيقة، بكل قسوتها، تنبض في كل حجر في فلسطين، وهمسها أعلى من كل التصريحات.

#مرايا_الدولية 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى