دولي

رسالة إلى القادة الأوروبيين.. ما فحواها؟

روسيا غير قابلة للتهديد أو الهزيمة

الكاتب والمحلل السياسي رامي الشاعر

أعلن مفوض الأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، أن الأسابيع والأشهر القادمة ستكون صعبة للغاية، حيث يجب على الأوروبيين أن يكونوا مستعدين لـ “دفع ثمن الحرية والأمن”.

هكذا صاغ القضية المسؤول الأول عن السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي: “ثمن الحرية والأمن”، حيث أشار بوريل إلى أن “مستقبل الديمقراطية الأخوية والأمن الأوروبي وحتى العالمي على المحك”، ويعني بذلك بطبيعة الحال أنه سيتعين على أوروبا “الديمقراطية الحرة” إرسال مزيد من المواطنين الأوكرانيين إلى المحرقة في سبيل “حرية وأمن” أوروبا، كما سيتعين على الولايات المتحدة الأمريكية إرسال أوروبا بأسرها إلى “استنزاف” روسيا، حتى تتفرغ الولايات المتحدة للصين، دفاعاً عن أوهام هيمنتها.

فاستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية إنما تتلخص في ضمان فرض وبقاء النظام الدولي الراهن “القائم على القواعد”، ويقصد هنا قواعد الهيمنة وقواعد الغرب التي تحمي مصالحه دون مراعاة مصالح ما سواه، وتنفيذ هذه الاستراتيجية ضد روسيا، الدولة ذات القدرات النووية الاستثنائية، والوحيدة القادرة فعلياً على مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية نووياً، مع تجنب اندلاع الحرب العالمية الثالثة.

وقد لجأت الولايات المتحدة لتنفيذ هذه الاستراتيجية إلى أربع أهداف رئيسية في حربها بالوكالة مع روسيا من خلال الدمية الأوكرانية:

1- عدم التورط في أي صراع مباشر بين الجيش الأمريكي أو قوات “الناتو” مع روسيا.

2- الإبقاء على الحرب الأوكرانية داخل الحدود الجغرافية لأوكرانيا.

3- تعزيز والحفاظ على وحدة “الناتو” من التفكك ما بين الصقور الراغبين في “تلقين موسكو درساً”، والحمائم من أوروبا القديمة، الذين يعرفون جيدا معنى الحرب مع روسيا.

4- تمكين أوكرانيا من استنزاف روسيا من خلال تدجيجها بجميع أنواع الأسلحة على ألا يتعدى سقف هذه الأسلحة الخطوط الروسية الحمراء، حتى لا يخرج الصراع خارج الحدود الجغرافية لأوكرانيا.

وعلى الرغم من حرص الرئيس الأمريكي جو بايدن، على عدم وجود قوات أمريكية في أوكرانيا، إلا أن “البنتاغون” رفع من مخزون الأسلحة الموجودة مسبقاً في بولندا، ونقل كتيبة مروحيات إلى هناك من اليونان، ثم نشر قوات المظلات من الفرقة 173 المحمولة جواً في دول البلطيق، وتم إرسال المزيد من القوات من إيطاليا إلى شرق رومانيا، بينما ذهبت قوات أخرى إلى المجر وبلغاريا.

وعلى مدى أشهر قليلة قبل بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ارتفع الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا من 74 ألف إلى 100 ألف جندي، وزاد عدد الأسراب المقاتلة المحمولة جواً من 4 إلى 12 سرباً، وزاد عدد السفن المقاتلة السطحية في المنطقة من 5 إلى 26، في الوقت الذي كانت فيه الدوريات الجوية القتالية والمراقبة تحلق على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع فوق الجناح الشرقي لـ “الناتو”، مع القدرة العميقة للنفاذ إلى أوكرانيا.

وعبثاً كانت الدبلوماسية تشق طريقها إلى محادثات وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف، والأمريكي أنتوني بلينكن، بينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تنقل العتاد والرجال والموارد وأنشأت وكالة الأمن القومي خط اتصال مباشر ما بين الجيش الأوكراني والقيادة الأوروبية الأمريكية لـ “الناتو”، ليبقى الأمريكيون على اتصال مباشر مع نظرائهم الأوكرانيين مع تطور الأحداث.

كذلك، وفي ديسمبر 2021، قبل بدء العملية العسكرية في نهاية فبراير الماضي، كانت الإدارة الأمريكية ترسل أسلحة إلى أوكرانيا، حيث سمح بايدن بسحب 200 مليون دولار إضافية من الأسلحة من المخزونات الأمريكية، لإرسالها إلى أوكرانيا وسط جدل في الكونغرس، وبين بعض أعضاء الإدارة الأمريكية.

كل ذلك كان يجري على قدم وساق، في الوقت الذي تحذر فيه الإدارة الأمريكية وتتوعد القيادة الروسية من “عواقب مدمرة”، و”كارثة” محققة للاقتصاد الروسي، و”عزل تام” لروسيا عن العالم، وكأن العالم ضيعة أمريكية يتحكم فيها بايدن مثلما يشاء، لكن الأيام والأشهر التالية أثبتت أن العالم في واقع الأمر منقسم حول الأزمة الأوكرانية، بعد أن انقشعت غيوم الدعاية الغربية وتعرت أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية أمام العالم بسرقتها الموارد الروسية جهاراً نهاراً، بعد أن ظلت لعقود تتحدث عن الاقتصاد الحر والملكية الخاصة، ثم أوقفت وسائل الإعلام الغربية “الديمقراطية الحرة” بث جميع القنوات الروسية في فضيحة لا تقل فداحة ولا جرماً عن سرقة الأموال، وليقوم الغرب بممارسة كل ما دافع عن عكسه، ولينغمس بكل ما أوتي من قوة في ثقافة القمع والتعتيم والكذب والتدليس.

اليوم يأتي الغرب، ويأتي بوريل ليعترف للمجتمع الأوروبي بأن الأوضاع أصبحت صعبة، لأن الاقتصاد الروسي لم ينهار كما كان متوقعاً، والمعارضة الروسية التي طالما موّلتها أجهزة المخابرات الغربية، عاجزة عن إثارة ثورة ملونة داخل روسيا كما كان متوقعاً، والشعب الروسي، وعلى عكس المتوقع أيضاً، يلتف حول بوتين، وحول العملية الخاصة في أوكرانيا، لذلك فإن الحديث يدور اليوم لا عن “إزاحة نظام بوتين”، ولا عن “إزاحة بوتين شخصياً”، وإنما عن “إزاحة الشعب الروسي”، أو بمعنى أدق، معاقبة الشعب الروسي لأنه روسي، لأنه يعتز بثقافته وبلغته وبتنوع أطيافه وأعراقه ودياناته، ولأنه يدافع عن ويحمي حدوده الجغرافية، ويؤمن باستقلال وسيادة دولته الروسية ووحدة أراضيها، ومستعد لبذل حياته ثمناً للدفاع عن الأمن القومي لهذه الدولة العريقة الراسخة، ذات الهوية واضحة المعالم، بعكس ما أصبحنا نشهده في أوروبا، التي تنسحق تحت ماكينة الدعاية الأمريكية، وتنفذ أجندتها في غياب تام للإرادة السياسية.

لهذا السبب أصبح الأوروبيون اليوم يفكرون، بتهييج واضح من أوكرانيا وبولندا ودول البلطيق، في عقاب هذا الشعب، ومنعه من دخول أوروبا، والتضييق عليه في الدراسة والسفر والحياة، بعد أن أوقفوا التعامل معه على مستوى البنوك، وأغلقوا كافة الأجواء الأوروبية أمام الطائرات الروسية، ويعتزمون التخلص من التبعية لـ “الغاز” الروسي، وهي الخطوات التي دفعت بالعالم أجمع إلى انهيار اقتصادي وشيك سيطيح بالأخضر واليابس، وسيطيح بالأوروبيين قبل الجميع.

يكفي للإنسان العاقل أن يفتح الخريطة الجغرافية ليرى من يحاصر من، وليعرف من يستطيع أن يلوي ذراع من في هذا الصراع الاقتصادي الدموي المرير (مساحة أوروبا 10 مليون كيلومتر مربع، ومساحة روسيا 17 مليون كيلومتر مربع)، ويكفي أن يراقب الإنسان العاقل أسعار الغاز وقد تخطت الأربع خانات (3000 دولار لكل ألف متر مكعب)، ليعرف ما فعله الأوروبيون ليس بأنفسهم فحسب، وإنما بالعالم أجمع، وخاصة بالعالم الثالث، الذي سيواجه خلال الأشهر القادمة أصعب أزماته على الإطلاق، التي ربما تحمل معها زعزعة للاستقرار ومزيد من الحروب والنزاعات والصراعات، وكل ذلك بسبب أوهام الهيمنة المطلقة، وبسبب تنفيذ خطة مستحيلة التنفيذ في السيطرة على أوكرانيا لتصبح رأس حربة لـ “الناتو” ضد روسيا.

إن الغرب على وشك أن يواجه صعوبة في الحفاظ على وحدته أمام مشكلاته الاقتصادية التي تواجهها دوله فرادى لا جماعة، وكما حدث في انتشار وباء فيروس كورونا، حينما اضطرت الدول إلى إغلاق حدودها، ومنعت بعض المعونات الطبية من الوصول إلى الدول الأوروبية المحتاجة، سيحدث نفس الشيء مع تدهور وضع الطاقة، مع دخول فصل الشتاء، خاصة وأن تدفق المساعدات الغربية إلى أوكرانيا يحمّل أوروبا بأعباء هائلة، لن تكون قادرة على تحملها لفترة طويلة مقبلة، الأمر الذي سيغير المشهد بشكل دراماتيكي.

كذلك فإن ما نشهده من تغيرات في الخريطة السياسية في عدد من الدول، لعل على رأسها بريطانيا وإيطاليا وفرنسا، بالإضافة إلى الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن توقف بعض الصناعات، وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، سوف يجعل من “البقاء حياً” الشعار الرئيسي داخل القارة الأوروبية خلال الأشهر القليلة الماضية. وهو ربما ما سيدفع السكان إلى طرح أسئلة حول ما إذا كان من المنطقي أن يدفع بهم السياسيون، أمثال بوريل وغيره لدفع فاتورة “الأمن والحرية” من جيوبهم الشخصية، خاصة وأن النظام في كييف لم يتميز، ولا أعتقد أن الحرب قد غيّرت شيئاً يذكر، اللهم إلا إلى الأسوأ، بالشفافية والنزاهة، بينما تقع أوكرانيا في صدارة قائمة الفساد في القارة الأوروبية، وهو ما اتضح في عدد من الوقائع لتهريب الأسلحة الغربية إلى السوق السوداء، ناهيك عن مشاهد توزيع “الأسلحة الآلية” على المواطنين في كييف خلال بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة، وما تمخض عن ذلك من إجرام وانفلات أمني واضح في أجزاء من البلاد.

أقول إن المواطن الأوروبي سوف يسأل حول ما إذا كان “الأمن والحرية” يعنيان بالنسبة لأوكرانيا مضخة لمليارات اليورو والدولارات والأسلحة، بينما يعنيان بالنسبة له خفض درجات حرارة المنزل في فصل الشتاء، وارتفاع أسعار الغذاء والسلع. وسيسأل عما إذا كان السياسيون، ممن اتخذوا تلك القرارات السياسية، إذعاناً للإملاءات الأمريكية بالطبع، قد فكّروا في مصالح شعوبهم، قبل أن يفكروا في مصالح وأوهام واشنطن، أم انطلقوا يلبون أوامر السيد الأمريكي بعمى سياسي وحماقة منقطعة النظير، غير عابئين بمصير شعوبهم. تلك هي المسألة.

ما يزيد الطين بلة ما أعلنه المستشار الألماني أولاف شولتس، خلال خطاب ألقاه في جامعة كارلوفا بالعاصمة التشيكية براغ، بشأن إنشاء نظام دفاع جوي مشترك مع جيران أوروبيين، معربا عن عزم بلاده زيادة الاستثمار بشكل كبير في تعزيز نظام الدفاع الجوي الخاص بها، وتنظيمه على نحو يمكن لجيرانها الأوروبيين المشاركة فيه أيضاً، ولا يضاهي تصريح شولتس سوى تصريحات الأمين العام لحلف “الناتو”، ينس ستولتنبرغ، بشأن ضرورة زيادة وجود الحلف بالقطب الشمالي، وهو ما علق عليه المتحدث الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف، بأن روسيا تنظر لذلك على نحو سلبي، لأن القطب الشمالي هو منطقة أنشطة اقتصادية وإنتاجية وأمنية، كما أن التعاون مع الدول الأخرى، ولا سيما جمهورية الصين الشعبية، يهدف حصريا إلى زيادة تطوير هذه المنطقة القطبية الشمالية، ولا يشكل ولا يمكن أن يشكل أي تهديد لأي دولة أو كتلة. وتابع بيسكوف بأن الكرملين يرى مثل هذه التصريحات تعبيراً عن نية مضادة للمصالح الروسية في القطب الشمالي، وروسيا قادرة على ضمان مصالحها على المستوى الضروري والموثوق.

بالنسبة لي، وفي رأيي المتواضع، يبدو أن الساسة الأوروبيين لا يعرفون المثل الروسي الذي يجسد الرغبة في إيقاع الضرر بالنفس، فقط من أجل عصيان نصائح الجدة، وعدم تغطية الأذن في الشتاء القارس: “سأجمّد أذني نكاية في جدتي”، وهو تحديداً وحرفياً ما يقوم به الأوروبيون على أعتاب شتاء أوروبي بارد.

#مرايا_الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى