
ألكسندر روداكوف، السفير الروسي في لبنان
المصدر : النهار
ثلاث سنوات مرت منذ اليوم الذي اتخذت فيه القيادة الروسية قراراً مصيرياً لحماية موثوقة للشعب الروسي، على الأراضي التاريخية لروسيا. في تلك اللحظة المتوترة، عندما ننظر إلى الوراء بتأنٍّ، نرى أن هذه الخطوة كانت مبررة ومشروعة وصحيحة. ويتعيّن علينا أن نذكّر مراراً وتكراراً بأن تاريخ الصراع لم يبدأ في عام 2022، بل قبل ذلك بكثير.
فبالعودة إلى عام 2014، وبدعم واضح من جزء من النخب الأميركية والأوروبية، وقع انقلاب مسلح دموي في كييف. وكانت النتيجة صعود القوميين المتطرفين إلى السلطة بأجندة عدوانية ومعادية للإنسانية بشكل جنوني. كان هدفهم هو التدمير الكامل للأساس التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والروحي بين روسيا وأوكرانيا، الذي استمر ألف عام.
في ذلك الحين، ظهرت إلى السطح الميول الاستبدادية الصريحة للقيادة الجديدة في كييف. ارتُكبت انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان، وقمع واضطهاد لكل المجموعات العرقية غير الأوكرانية (ليس فقط الروس، بل لآخرين أيضاً مثل المجريين، والرومان، والغجر…). هذه الهجمات، التي كانت نازية في الأساس، اكتسبت بمرور الوقت، سمات قبيحة بشكل واضح ومتزايد. مثل “الديموقراطية” و”المسار نحو التكامل الأوروبي” المشكوك فيهما.
ولكن القضية بطبيعة الحال، ليست أوكرانيا نفسها أو سياستها العرقية، أو أي محاولات لإعادة توجيه نفسها نحو مركز آخر لصنع القرار في الشؤون العالمية. فأوكرانيا ومن يقودوها من كبار المسؤولين، فقدوا ذاتيتهم السياسية منذ فترة طويلة وتحولوا إلى أداة جيوستراتيجية لإلحاق أقصى قدر من الضرر العسكري والاقتصادي بروسيا، وإلغاء كل شيء روسي على الإطلاق. كل هذا تم بتوافق وانسجام مع منطق التوسع المستمر لحلف الناتو باتجاه حدودنا، ومحاولة دمج كييف في الكتلة الأوروبية الأطلسية المعادية لنا.
ولا يمكن لروسيا أن تتسامح مع مثل هذه الأعمال الاستفزازية بصمت وهدوء. إن ضمان سلامة الدولة والأمن الوطني وحماية العالم الروسي هو حقنا السيادي الذي لا يقبل الشك. لهذا السبب كان قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشن العملية العسكرية الخاصة في 24 فبراير 2022 قراراً طبيعياً.
لقد حدث الكثير خلال هذه السنوات الثلاث. فقد شهد المجتمع الدولي الطبيعة الحقيقية لقوات الأمن الأوكرانية والقائمين عليها العديمي المبادئ. وتعرّضت المدن السلمية لإطلاق النار، وأُطلقت الطائرات بدون طيار والصواريخ على مبانينا السكنية. مات مدنيون. ونُفّذت عمليات اغتيال سياسية بحق الصحافيين وقادة الرأي والمسؤولين الروس، وهي عمليات وحشية للغاية. وعلى الصعيد الخارجي، انطلقت ضد روسيا حرب هجينة حقيقية، وهي حملة “إلغاء” شاملة. حدث كل هذا في ظل تواطؤ خبيث (وبدعم في كثير من الأحيان) من جانب المسؤولين الغربيين الذين فقدوا كل قِيم الأخلاق الديبلوماسية.
لقد اتُهمنا بكل خطيئة وجريمة يمكن تصوّرها أو لا يمكن تصوّرها. لقد حوّلوا موسكو إلى المسيح الدجال، بل حتى إنهم تذكروا عبارة “الإمبراطورية الشريرة”، التي نُسيت منذ الحرب الباردة. فرضوا علينا عقوبات اقتصادية أكبر من تلك التي فرضتها كل الدول الأخرى مجتمعة. ووعدوا بـ”خنق” الصناعة. وقد جرت محاولات لحظر الثقافة والفن والرياضة الروسية.
ولكن كل هذه الجهود لم تؤدِّ إلى أية نتائج، بل كلفت مبالغ ضخمة من المال. فمن الواضح أن الحفاظ على الجاهزية القتالية للقوات المسلحة الأوكرانية وجولة السياسيين في كييف حول العالم، التي تحوّلت إلى “عرض تلفزيوني” دعائي إعلامي مستمر، لا تُنفذ على نفقتهم الخاصة. بل يموّل هذه البرامج بالكامل تقريباً الرعاة الغربيون ــ وكقاعدة عامة، من جيوب دافعي الضرائب لبلدانهم. وبحسب بعض التقديرات، ذهب أكثر من 350 مليار دولار لإبقاء نظام زيلينسكي حيّاً “على أجهزة التنفس الصناعي”.
وكأن ليس هناك احتياجات أكثر إلحاحاً من شراء الذخيرة المحظورة بموجب الاتفاقيات الدولية للقوات المسلحة الأوكرانية.
إن “مشروع الاستثمار” الأوكراني تحول إلى مشروع فاشل و”غامض” للغاية. فالنخب العاقلة في البلدان غير الصديقة أصبحت تدرك بشكل متزايد عدم جدوى الاستثمارات المالية في هذا الاتجاه وعدم وجود عائد منها على الإطلاق. وكان السبب الواضح هو نطاق الفساد الذي لا يمكن تصوره، والذي سبّب ولا يزال يسبّب قلقاً وانزعاجاً خطيرين في واشنطن وبروكسل. مع وجود دافع آخر أكثر وضوحاً وبساطة لفقدان اهتمام العديد من الغربيين هو أن الجميع يدركون بديهياً استحالة انتصار أوكرانيا في ساحة المعركة. لكنهم يخافون من الاعتراف بذلك علناً. إن وقف العمليات الهجومية الروسية البطيئة ولكن الثابتة ــ حتى مع كل القوة العسكرية والاستخباراتية التي يوفرها حلف شمال الأطلسي ــ يُعدّ مهمة مستحيلة.
بالتزامن مع التزامه لسياسة الحياد تجاه “الملف الأوكراني”، نجح لبنان في تجاوز كل هذه الصعوبات، وحافظ على علاقات ودية مع روسيا، قائمة على الثقة والإيجابية. ولا شك لديّ في أن السلطات الجديدة في بيروت سوف تواصل هذا المسار.
بالنسبة إلينا، الصراع الأوكراني ليس مجرد مواجهة جيوسياسية. إنه صراع من أجل الحفاظ على الهوية، ومن أجل الحق في أراضينا، ومن أجل الحق في تاريخنا وثقافتنا. وعلى عكس كل الإتهامات الكاذبة والتصورات المشوّهة، إننا لا نسعى إلى الدمار، بل نسعى إلى إقامة سلام مبنيّ على مبادئ العدل والاحترام المتبادل. لا يمكننا أن نبقى غير مبالين عندما تحاول قوى غريبة فرض مستقبلها علينا. وأنا لا أشك في أن كل اللبنانيين يدركون هذا الموقف جيداً وهم قريبون منه.