سفير روسيا الاتحادية في لبنان “ألكسندر روداكوف“
إن هيكل العلاقات الاقتصادية الدولية يتولد فعلاً بسرعة فائقة منذ سنوات عديدة، حيث تجري عمليات عميقة تطورية وثورية في بعض الأحيان، تعطي الاقتصاد العالمي وجهاً جديداً.
والآن وعلى نطاق واسع تحوّل الاتجاه السائد نحو العولمة إلى ظاهرة عكسية تماماً.
فنتيجة مجموعة من الظروف المختلفة، بدأت روابط عناصر الاقتصاد العالمي في التفتت. والقوة الاقتصادية، التي كانت مركزة ذات يوم في جزء واحد من العالم، بدأت في التشتت. بطريقة أو بأخرى، نتيجة لهذه الاضطرابات نشأتْ ونمتْ قوة تحالفات اقتصادية وسياسية جديدة، يُطلق عليها بجدارة، الأعمدة الجديدة للعالم الناشئ المتعدد الأقطاب.
أحد أهم هذه التجمعات هو الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، الذي احتفل هذا العام بالذكرى السنوية العاشرة لتأسيسه. لقد وصل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي إلى هذه المناسبة بنتائج مهمة، وليس فقط على مستوى المؤشرات الرقمية “الجافة” للنمو المالي والاقتصادي في مختلف المجالات. فما هي الإنجازات التي يمكن أن «يتباهى» بها هذا الاتحاد خلال هذه الفترة؟
على مدى 10 سنوات، ارتفع إجمالي الناتج المحلي لدول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي من 1.6 إلى 2.5 تريليون دولار أمريكي. وزاد حجم التجارة مع البلدان الثالثة بنسبة 60%، وتضاعف حجم التجارة المتبادلة. المهم هو أن كل هذه الديناميكيات الإيجابية تتعزز وتتطور بشكل رئيسي في العملات الوطنية. هذه ليست مجرد أرقام نظرية في التقارير الإحصائية: فقد زاد الإنتاج الصناعي في الاتحاد الأوراسي بنسبة 25.4%، والإنتاج الزراعي بنسبة 30% تقريبًا.
ليس سراً أن روسيا تعرضت خلال السنوات القليلة الماضية لضغوط عقوبات غير مسبوقة من الغرب (وبالمناسبة، نحن لسنا الدولة الوحيدة في الاتحاد التي تخضع لعقوبات غير مشروعة). وبطبيعة الحال، بالنسبة للاقتصاد المحلي، أصبح فرض عدة آلاف من القيود بمثابة خدعة أوروبية أطلسية قذرة ومزعجة. ومع ذلك، وبفضل السياسة المنسقة داخل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في عام 2022، كان من الممكن تحقيق الاستقرار بسرعة في السوق الداخلية للاتحاد وتلبية الطلب الداخلي بالكامل من خلال العروض المماثلة. بعبارات أبسط، بسبب التدابير الرامية إلى زيادة استقرار اقتصادات الدول “الخمسة” الأوراسية، لم يواجه سكان الدول الأعضاء صدمات اقتصادية كبيرة في شكل زيادات حادة في الأسعار أو نقص طويل الأجل في أي منتجات. لقد وجدت الأسواق توازنها حتى في الأوقات المضطربة.
إن مستوى ما يسمى “تأثير التكامل” الذي تم تحقيقه في عام 2023، يتحدث عن نفسه بالفعل: فقد تجاوز معدلُ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، في كل من اقتصادات “الخمسة”، المعدلَ العالمي ب 3.2٪، وفقا لصندوق النقد الدولي، حيث بلغ 8.7% في أرمينيا، 6.2% في قيرغيزستان، 5.1% في كازاخستان و3.9% في بيلاروسيا. وهذا يتنافى مع ما وعدتنا به واشنطن من “خنق” الاقتصاد وعزل جميع الحلفاء.
إن تطور الاتحاد الاقتصادي الأوراسي لا يتوقف عند هذا الحد. ففي إطار الاتحاد، يستمر تحسين وتبسيط “الحريات” المالية والاقتصادية المختلفة. كما يجري تحديث وتحسين آلية إطلاق الحيز الجمركي الموحد، وتطوير مشاريع التعاون الصناعي المختلفة. وبطريقة منسقة يجري تطوير إطار النقل للاندماج في خطوط النقل القارية والحصول على أقصى قدر من التأثير الاقتصادي الإيجابي. كذلك يجري تعزيز التعاون في قضايا ضمان الأمن الغذائي الوطني.
يتطور الاتحاد الاقتصادي الأوراسي أيضًا على المستوى الخارجي. والأولوية هي توسيع شبكة اتفاقيات التجارة الحرة. وهنا قد تم بالفعل دمج صربيا وفيتنام وإيران، كما تتشابه في مضمونها الاتفاقيات مع الصين. وقد تم إطلاق أعمال لإعداد وثائق مماثلة مع مصر وإندونيسيا والإمارات العربية المتحدة. كذلك بدأت مؤخرًا مفاوضات بشأن اتفاقية تجارية مؤقتة مع منغوليا.
وفي المجمل، تم التوقيع على أكثر من 80 مذكرة واتفاقية مختلفة داخل الاتحاد مع مجموعة واسعة من الحكومات والمنظمات الدولية والإقليمية. وهذا في الواقع يمثل أغلبية ممثلي الجنوب والشرق العالميين: الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأفريقيا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ.
هناك حقيقة بسيطة، يتم تجاهلها بعناد من قبل شركائنا الغربيين السابقين: لا السياسة الخارجية ولا العزلة الاقتصادية لموسكو وأقرب جيرانها وأصدقائها أبدت نجاحها. بل التأثير كان معاكسا تمامًا، كما يبدو لي.
لقد نجحنا في تجميع تجربة ناجحة هائلة في مجال التكيّف مع الأحداث الاقتصادية والسياسية الأكثر تعقيدًا، وصولاً إلى الأحداث الأكثر “قتامة” من كل البجعات السوداء. وهذا “التصلب” أدى إلى زيادة فعالية نموذج التكامل الأوراسي وأثار الاهتمام المتزايد الآن وبلا هوادة بالاتحاد الاقتصادي الأوراسي من جانب عدد متزايد من الدول والمنظمات. ونتيجة لذلك، فإننا نتلقى بانتظام إشارات من شركاء خارجيين تطلب منا البدء في المفاوضات بشأن إنشاء نظام تجاري تفضيلي.
أنا متأكد من أن هذا هو مجرد بداية المسار المجيد للاتحاد الأوراسي. إن ربط الإمكانات التجارية والاقتصادية للاتحاد الاقتصادي الأوراسي يلوح في الأفق مع الدول المشاركة (والجمعيات بشكل عام!) البريكس، منظمة شنغهاي للتعاون وآسيان. بالفعل، إن شبكة اتفاقيات الاتحاد الاقتصادي الأوراسي عمومًا توفر إمكانية الوصول إلى سوق يبلغ إجمالي عدد المستهلكين فيها أكثر من 400 مليون مستهلك. ليس هناك شك أن هذا الرقم سوف ينمو في المستقبل المنظور، شريطة الحفاظ على الوتيرة الحالية للتطور النوعي التدريجي.
لماذا لا يسعى لبنان إلى الاستفادة من هذه الأسواق التي لم تتشبع بعد؟ لماذا لا نملأ المجالات غير المستغلة بعد في الأسواق الناشئة؟ لماذا لا نسعى للاستفادة من الاستثمار والتجارة مع الدول التي معدلات نموها أسرع من المعدلات العالمية؟
الأسئلة، بطبيعة الحال، بلاغية جزئيا. “أرض الأرز” تواجه مجموعة من التهديدات الأخرى، والأزمة الاقتصادية ليست سوى واحدة منها. ولكن لا يزال هناك سبب للتفكير في هذا الأمر.
لدى روسيا، مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بأكمله، ما تقدمه لأي شريك مهتم ومنفتح على حوار موضوعي. لذلك، ليس لدي أدنى شك في أن لبنان أيضاً يمكن أن يجني فوائد كثيرة، من خلال تكثيف التفاعل الاقتصادي مع “الخمسة” الأوراسية. هل هناك إمكانات تجارية واستثمارية ضخمة غير مستغلة؟ بلا أدنى شك. هل هناك الكثير من الفروقات المختلفة والخفايا الدقيقة التي تمنع بيروت من توسيع التفاعل مع موسكو؟ بطبيعة الحال. ولكن، كما يقال، كل شيء ممكن – فقط إذا كان لديك الرغبة.
#مراياـالدولية