سياسة

فتوى الجهــاد الكفائـي.. والرؤيـة العميقـة للمرجعيـة الدينيـة

في مثل هذه الأيام انقضَّت عصابات «داعش» الإرهابية على محافظة نينوى، وفي مثل هذه الأيام صدرت فتوى الجهاد الكفائي من قبل المرجع الديني آية الله السيد علي السيستاني.

ولأن الفتوى ارتبطت بهجمة «داعش»، فمن الطبيعي جداً أن نقرأ الحدثين بصورة متوازية، لنعرف من أين انطلق تنظيم «داعش»، وعلى ما استند، والى أين وصل، ولنعرف في الوقت نفسه لماذا تدخلت المرجعية الدينية بقوة هذه المرة، وما الذي أحدثته فتواها التاريخية؟

هذه الأسئلة وغيرها، لابدَّ من أن تثار اليوم من قبل الكثيرين، في سياق المراجعات والقراءات لمجمل الوقائع والمعطيات، ربما يعتبر من أصعب وأعقد وأخطر المفاصل الزمنية التي مر بها العراق خلال الاثني عشر عاماً المنصرمة.

وقد لا يخفى على المتابع والمراقب، ان تنظيم «داعش» انطلق من واقع مأزوم من الناحية المذهبية، بسبب أجندات ومشاريع اقليمية ودولية سعت بكل ما أوتيت من قدرات وإمكانيات إلى حرق دول وشعوب المنطقة بنيران الطائفية المقيتة.

وإذا كانت ما يسمى بـ «ثورات الربيع العربي» قد تفجرت لأسباب اقتصادية وسياسية في الإطار العام، فإن قوى معينة -إقليمية ودولية- عملت على دفعها باتجاهات مذهبية وطائفية، وهذا ما لاحت معالمه في مصر، وتجلت واتضحت إلى حدٍّ كبير في البحرين وسورية والعراق ولبنان واليمن، وتنظيم «داعش» الإرهابي مثّل أحد الأدوات المهمة في تلك الأجندات، وقبله «جبهة النصرة»، وعناوين أخرى، تختلف في الأشكال والمظاهر والمسميات وتلتقي في الجوهر والهدف والمضمون.

ويخطئ من يحاول قراءة الواقع العراقي بعد سيطرة «داعش» على نينوى، بمعزل عن مجمل المشهد الإقليمي العام بكل تداعياته وإرهاصاته، ويخطئ أيضاً من عوّل -أو يعول- على تنظيم «داعش» لتصحيح ما يسميه البعض بالتوازنات السياسية الخاطئة، في إشارة أو إيحاء إلى مظلومية المكوِّن السني في ظل العملية السياسية القائمة في العراق.

فمن جانب، لم يعد وجود «داعش» مقتصرا على مساحات محددة في سورية والعراق فحسب، بل إنه امتد إلى اليمن ولبنان ومصر وليبيا والجزائر وتونس ونيجيريا، وبالاتجاه الآخر امتد إلى أفغانستان وباكستان ودول آسيا الوسطى، وأوروبا، أضف إلى ذلك فإن دولاً أخرى، من بينها المنظومة الخليجية والأردن، وتركيا باتت مهددة إلى حد كبير من التنظيم، رغم أن البعض منها دعمته وساندته ووفرت له الظروف والإمكانيات الملائمة للتوسع والانتشار والتمدد.

ومن جهة أخرى، أثبتت كل الوقائع أن تنظيم «داعش» لا يستثني أحداً في أجنداته الإجرامية، وما تعرض له أبناء المكون السني من قتل وتهجير واستباحة للحرمات والمقدسات والأعراض في نينوى والأنبار وصلاح الدين وكركوك وغيرها يمثل دليلاً دامغاً على أن ذلك التنظيم الإرهابي لم يكن صادقاً في شعاراته ودعاواه بالدفاع عن السنّة.

ولعل الأرقام اليوم تتحدث بوضوح عن حقيقة التوجه الداعشي، فأعداد النازحين من المحافظات والمناطق ذات الأغلبية السنية يكاد يكون قد اقترب من أربعة ملايين شخص، وحجم التدمير للبيوت والبنى والمنشآت التحتية والخدمية بلغ مستويات مرعبة، وعدد الضحايا في تلك المحافظات والمناطق ما زال يتصاعد ويرتفع باضطراد مع كل جريمة يقترفها الـ «دواعش».

واذا لم يقدّر هذا الطرف أو ذاك مبكراً حقيقة وعمق الخطر الـ «داعشي»، فإن المرجعية الدينية في النجف الأشرف كانت لها رؤية ثاقبة وعميقة، وقراءة استشرافية دقيقة وصائبة لمآلات الأمور بعدما اجتاحت عصابات «داعش» نينوى ومناطق أخرى في العاشر من شهر حزيران:يونيو 2014.

وهي -أي المرجعية الدينية- استندت في رؤيتها إلى جملة حقائق، منها:

– إن الواقع التي تعيشه المؤسسة العسكرية العراقية، من حيث تعدد الولاءات واستشراء الفساد، وضعف -أو غياب- العقيدة القتالية، يجعل من غير الصحيح التعويل عليها بالكامل لخوض معارك غير تقليدية في ظل ظروف صعبة ومعقدة، ومع عدو مستميت، لذلك لابدّ من إشراك الحالة الشعبية – الجماهيرية في الحرب ضد «داعش».

– عدم وضع حد لتنظيم «داعش»، وكبح جماحه بشكل سريع سيؤدي إلى تقدمه وتمدده، بحيث يصعب في مراحل لاحقة مواجهته والتغلب عليه، خصوصاً حينما يصل إلى العاصمة بغداد والمدن المقدسة.

– ينبغي أن لا يقتصر الدفاع عن مكوَّن معين وعدم الدفاع عن مكوَّن آخر، ولا عن مدينة دون أخرى، بعبارة أخرى لابدً ان ينظر إلى العراق والعراقيين الذين يستهدف تنظيم «داعش» بنظرة واحدة، إذ على الشيعي أن يقاتل لحماية السني والكردي والتركماني والمسيحي والإيزيدي والشبكي على حد سواء، وهكذا بالنسبة لأي مكون آخر.

– العراقيون هم أولى بالدفاع عن بلدهم من الآخرين، ومن الخطأ الاعتماد والتعويل على القوى الخارجية، والتصديق بشعاراتها وادعاءاتها، لاسيما تلك التي تحوم حولها الشبهات بدعم وتمويل الإرهاب.

– إن مخططات داعش لا تقتصر على العراق فحسب، لذا فإن عدم تطويقه ومحاصرته وضربه بقوة وسرعة في العراق ستفضي إلى استفحاله ووصوله إلى بلدان أخرى، مما يعني مزيداً من المآسي والويلات، والكوارث والأزمات.

هذه الرؤية المرجعية الشاملة الجوانب والمتعددة الابعاد، تمخضت عن تشكيل قوات قتالية «الحشد الشعبي» تمتلك إرادة قوية ولديها استعداد عالٍ للتضحية، وتعمل وتتحرك في إطار السياق القانوني والرسمي وبإشراف الدولة، وتمخضت تلك الرؤية أيضاً عن تبلور رأي عام شعبي على مستوى الشارع العراقي بمختلف تلاوينه ومسمياته، رافض لمنهج داعش وسلوكياته الإجرامية، وتمخضت عن قناعة حقيقية وراسخة لدى شتى القوى والمكونات العراقية بأن الخيار الوطني هو الحاسم في توجيه مسارات الأمور والكفيل بهزيمة الإرهاب.

وعلى ضوء ذلك، فإن الحشد الشعبي بات يشكل رقماً صعباً ومؤثراً ومهماً في أية معركة ضد «داعش»، مثلما يشكل الجيش رقماً صعباً ومؤثراً ومهماً لا غنى عنه، وإذا بدا للوهلة الأولى بالنسبة للبعض أن الحشد الشعبي يحمل هوية مذهبية شيعية، أو هكذا حاولت بعض الأطراف الداخلية والخارجية الإيحاء بذلك، فإن انخراط أبناء العشائر السنية في محاربة داعش، والمسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان، فضلاً عن الأكراد، إما في اطار الحشد الشعبي، أو بالتوازي والتنسيق والتعاون معه، جعل صورة العراق المتنوع تبرز واضحة وجلية في ذلك العنوان الكبير.

أضف إلى ذلك، أن الحشد بعناوينه المتعددة والعناوين القريبة، هو الذي حقق الانتصارات المهمة والكبيرة على تنظيم «داعش»، بدءاً من جرف النصر، مروراً بمناطق حزام بغداد، والعظيم والضلوعية وبلد وبيجي وسامراء وأمرلى وتكريت، ولم يكن لقوات التحالف الدولي التي تشكلت بزعامة الولايات المتحدة الأميركية دور حقيقي في كل تلك الانتصارات، بل ربما تكون في بعض الأحيان قد عرقلت وعوقت، وأكثر من ذلك دعمت وساندت عصابات «داعش»، لأن أهدافها لا تقوم على إنهاء ذلك التنظيم مثلما يسعى العراقيون، وإنما تقتصر على إضعافه وتحجيمه حتى يبقى أداة بيدها تستخدمه وتوظفه متى وأنَّى شاءت.

ولا يختلف اثنان، حصل إخفاق وتلكؤ وتراجع، لأسباب وظروف مختلفة، بيد أن حجم ما تحقق من مكاسب وإنجازات يبقى كبيراً، وكبيراً جداً، وكل ما تحقق كان محوره ومحركه فتوى الجهاد الكفائي، وما سيتحقق لاحقاً لن يخرج إلا من رحم تلك الفتوى!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى