لبنان

عندما يقول نصر الله «روحوا بلطو البحر»

النابلسي: هدف المقاومة إزالة اسرائيل من الوجود

صادق النابلسي أستاذ جامعي

لو افترضنا أننا عدنا عشر سنين إلى الوراء وطلبنا من شخص عارف بالسياسات الدولية وخبير بشؤون منطقتنا ودولها ونخبها وأحزابها أن يقدّر لنا مَن سيكون المنتصر بعد أن دخلت فوضى «الربيع العربي» عقولَ العرب وقبائلهم وعشائرهم وخيامهم ومراكز قرارهم ومجالس تشريعهم، الأرجح أن تكون الإجابة هي أميركا، ذلك أنّ أميركا هي القوة العسكرية الأولى في العالم التي شقّت جحافلها وأرتالها المدرعة طريقها إلى بلداننا وأقامت فيها قواعد عسكرية ضخمة، كذلك هي الدولة الأكثر نفوذاً وتأثيراً بفعل تقدمها العلمي وتنظيمها الصناعي والتكنولوجي.

على أنّ ذاكرة تلك الأيام تحكي لنا أيضاً عن تلك النخبة العربية التي اعتبرت أن لا وجود لأمة تضاهي قوة أميركا، فلم يكن منها حينذاك إلا أن اختارت الواقعية بمفهومها الانهزامي لأنها أدعى للسلامة من التصلّب والعناد، وعلى قاعدة «مَن لا تستطيع التغلب عليه فالأفضل لك أن تلتحق به»!

لكن الإجابة الصحيحة ليست أميركا. فمَن كان يعتقد بهذا الاعتقاد اعتماداً على ما كان يرى فحسب، تجاهل تماماً أنّ أميركا تغرق في متاهات الوهن والضعف وتتجه إلى ما وراء سورها العظيم الذي بنته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بالبنادق والبضائع والورقة الخضراء.

قبل وفاته في عام 2012، وصف زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأسبق، أميركا بأنها «إمبراطورية متهالكة»، وركّز في أحاديث صحافية منوّعة على أنّ نهاية الهيمنة الأميركية والعالم أحادي القطب أمر لا يمكن إنكاره.

فيما حاجّ آخرون، وعلى رأسهم المفكر اليساري نعوم تشومسكي، بأنّ الأساس الذي تشكلّت عليه الهيمنة الأميركية في مجال العلاقات الدولية آيل إلى التراجع،ذلك أنّ الذي جعل أميركا في موقع الصدارة وفق قاعدة «عدم المساواة» العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية بينها وبين خصومها، والتي حافظت عليها خلال العقود الماضية، هي الآن أمام اختبارات جدّية من قبل قوى نامية وصاعدة كالصين وروسيا وإيران والهند وغيرها من البلدان التي تعمل على تقليص الفوارق بل والتقدم على أميركا في إنتاج العلوم وابتكار الصناعات الذكية.

وحتى القوة الناعمة، التي استعملتها أميركا في سياق إقناع حكومات مختلفة في العالم بالقبول بإرادتها وخياراتها وأجندتها، قد وهنت، فلم تعد دول في العالم محسوبة «صديقة» لواشنطن تجاملها كما كانت في السابق، وأبرز مثال على ذلك ما قامت به السعودية أخيراً بعقد اتفاق مع إيران برعاية صينية.

مراقبة الأداء العسكري والسياسي والاقتصادي السيء لأميركا في العالم والمنطقة يوسع النظر إلى الجراح البالغة في الداخل المتشكلة من أزمة المديونية العالية، البطالة، العجز في ميزان المدفوعات، معدلات التضخم، أزمة المصارف إضافة إلى مشكلات جسيمة في آليات العمل الديموقراطية، ويتضح اليوم وضوح الشمس أنّ ما تعانيه أميركا في الداخل والخارج ليست مشكلات قابلة للتجاوز.

هناك إدراك عام بأنّ العملاق الأعرج لا يمكن أن يعود إلى ما كان عليه، وأنّ تغيير قواعد ممارسة العمل العسكري والاقتصادي سيفرض بدوره تحولات حادّة وحقائق جديدة، من دون أن يسمح باستعادة الوضع السابق، ولكن ماذا يعني عدم قدرة الولايات المتحدة الأميركية على استعادة الوضع السابق بالنسبة إلى حلفائها في المنطقة ولا سيّما إسرائيل؟

يعني أنّ المنطقة تتجه إلى إفراز مستويات من عدم التوازن لا تنسجم من الناحية السياسية والعسكرية والاقتصادية مع مجد إسرائيل وتألقها واقتدارها المطلق. وبما أنّ إسرائيل بلد تبعي يعتمد بشكل كامل على قوة أميركا وصدارتها، فمعنى ذلك أنّ ضعف أميركا وانهيارها سيسبب حكماً ضعفاً وانهياراً لإسرائيل. ستنساق إسرائيل إلى عدم استقرار مالي. ستشهد أسواقها حالات ذعر ومصارفها حالات إفلاس. ستتضاعف الهجرة المعاكسة بما فيها هجرة الأموال…إلخ.

وإذا كانت إسرائيل تعتمد على أميركا والغرب في الوفاء بالجانب الأكبر من تكاليف حروبها، فإنّها لن يكون بمقدورها شن حرب فضلاً عن الانتصار بها إذا لم يكن الغرب ولا الولايات المتحدة يعتقدان بضرورتها ومستعدان لتحمل أعبائها في ظل عجزهما المتنامي على خلفية الحرب في أوكرانيا وأولوياتهما التي تتجه لمواجهة العملاق الصيني الذي يتمتع بأعلى مستويات الكفاءة الاقتصادية والمالية والإنتاجية.

وتقود هذه المعضلة التي تواجهها إسرائيل إلى سؤالين: الأول، هل لا تزال قوة الجيش الإسرائيلي فعّالة ومفعمة بالحيوية لخوض حرب والانتصار فيها؟ في الوقت الذي يتحدّث فيه قادة كبار في المؤسسة العسكرية عن تراجع وضعية الجيش، وبأنّ «لدى إسرائيل جيشاً للحياة اليومية وليس لديها جيش للحرب المتعددة الجبهات»، وهذا ما أكدّ عليه رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، الجنرال هرتسي هليفي، بأنّ «قدرة الجيش بالكاد تكفي للتعامل مع جبهة ونصف جبهة وليس مع خمس جبهات مصحوبة بإطلاق آلاف الصواريخ والقذائف»، لينتهي بخلاصة إلى أنّه لا يمكن بناء جيش نصر في ظل الأساسات المائلة والقيادة المعطوبة داخل الجيش.

الكارثة آتية لا ريب فيها، التعويض بالوهم للهروب من الواقع أو العلاج عبر التهديد بـ«معركة بين الحروب» أو «حرب مشكوك بقيمتها ونتائجها» لا يمكن أن يقشع دخان الحريق الذي يشتعل داخل الكيان نفسه.

أمّا السؤال الثاني، فيرتبط بالعائد والمردود من وجود إسرائيل. فالدول الاستعمارية عندما أنشأت المستعمرات كان غرضها زيادة ثراء البلدان الأم وحماية مصالحها، لا أن تكون أعباؤها (المستعمرات) أكبر مما يعود منها، ولا أن يكون ضررها أكبر من نفعها. ولا خلاف أنّ إسرائيل، باعتبارها مستعمرة غربيّة، باتت بالفعل تُشكّل عبئاً ثقيلاً على داعميها الغربيين، وقد يجادل البعض بأنّ الغرب ليس باستطاعته ترك إسرائيل، ولا وقف استمرار تطورها، لأنها جزء من الحرب أو التسويات أو المنافسة مع دول المنطقة ودول العالم التي تملك أو تسعى لنفوذ سياسي واقتصادي لها يتناقض والنفوذ الغربي التاريخي ولكن ماذا لو تنازل الغرب عنها، سواء كان يريد حدوث ذلك فعلاً بفعل انخفاض قيمتها الاستراتيجية والاقتصادية أو بسبب الوهن العام الذي بدأ يصيب الغرب الذي لم يعد مؤسسة حضارية قادرة على صنع الأرباح له ولحلفائه، لا شك سيكون ذلك أخطر تحوّل على وجود الصهاينة والكيان برمته.

في المقابل، يعمل محور المقاومة، الذي يضع نصب عينيه هدف إزالة إسرائيل من الوجود، توليفة من مجموعة عوامل للوصول إلى ساحل النصر نذكر بعضها:

-روح المقاومة بمنطلقاتها الدينية والوطنية والقومية المغروسة بعمق في تاريخ الأمة،الأمة التي تتجاوز بقوة مزالق الأخطاء والجراحات التي تشكّلت داخلها من النكبة والنكسة وكامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة إلى «النصرة» و«داعش»، وتراكم مكتسبات مهمة في ميادين القتال ليوم النزال الأكبر.

-قوى وحركات المقاومة التي نسجت، برعاية ودعم من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، استراتيجيات سياسية وعسكرية واقتصادية مشتركة في نسيج وثيق للغاية. قوى تستجمع كل ما لديها من مخزون وطاقة، مقررة أن تتحرك، وهي تملك جسارة وكفاءة الفعل.

-الأعداد الوفيرة من المقاومين التي تستند إلى معنويات عالية للقتال ولديها المهارات العالية أيضاً لخوض مواجهات شديدة التعقيد لوجستياً وتقنياً وميدانياً.

لا شك أنّ محور المقاومة يتمتع اليوم بوفورات بشرية وتسليحية وآفاق استراتيجية غير مسبوقة في تاريخ الصراع بين شعوب المنطقة والاستعمار منذ قرون.، وإذا كان النصر النهائي في ما مضى بعيداً من متناول العرب والمسلمين وقوى المقاومة بفعل الفجوة في الإمكانات والاستعدادات والظروف والقيادة، فإنّ النصر في هذه المرحلة بات قادراً على الإفصاح عن نفسه وتثبيت مساحته بوضوح، وأنّ تغيّر الموازين سيكون حاسماً وحتمياً عند اختبار النار الكبرى.

-اقتراب المشروع الإسرائيلي من حافة الخطر. ويجوز القول من دون تجنّ أو تعسّف على الوقائع أنّ الصهاينة يعيشون نكبتهم الحقيقية بفعل التصدّعات الدينية والقومية والاجتماعية والسياسية. هذا التحول الذي يشهده الكيان الذي بقي مخفياً خلال السنوات الماضية عن أعين العالم هو اليوم في أظهر أشكاله ومن شأنه أن يزيد من سرعة تفكك الدولة وانهيارها.

ومن حسن الحظ أنّ النخبة الإسرائيلية باتت تدرك اليوم أكثر أنّ الدولة الشرعية الطبيعية ليست مجرد جيش، وأنّ الدولة بإمكانها أن تقيم جيشاً لكن الجيش ليس بإمكانه أن يقيم دولة بكامل مواصفاتها ومتطلباتها القانونية والتاريخية.

-أزمة القيادة التي يعانيها الكيان غير مسبوقة، المجتمع الإسرائيلي يرى أنّ قيادته عديمة الكفاءة والعقلانية ولا يصح أنّ يُعهد إلى هذه القيادة التي وصفها السيد نصرالله بـ«المجنونة والمتطرفة» بسلطة صنع القرار، في اختبار أجرته إحدى الجامعات الأميركية وصلت إلى نتيجة مفادها أنّ المشكلات لا تنشأ من ناحية العمّال وإنما من ناحية مدراء المستوى الأوّل والمتوسط، وهذا هو بالفعل ما تواجهه إسرائيل من أخطار، حيث تتدخل المستويات القيادية الأولى والمتوسطة لمنع عقلانية الكيان والمجتمع من أن تتجسد،

ومن إحداث تغيير على مستوى الأهداف والقيم والتحالفات، خصوصاً في ظل أزمات متلاحقة لا يمكن إيقافها للاستراحة وتبديل القادة، الصراع مع محور المقاومة ليس مباراة كرة قدم على الطريقة الأميركية التي يمكن خلالها تكرار الإيقاف المؤقت للعب مع الإمكان غير المحدود لتبديل اللاعبين بغيرهم، اللعبة سريعة وشديدة الخطورة.

ولذلك عندما يأتي المحللون الإسرائيليون للمقارنة بين قادتهم وقادة محور المقاومة، لا سيما الأمين العام لحزب الله، يعتبرون أنّ نصرالله هو القائد الذي أثّر في هيبة إسرائيل وأهدافها وحدّ من مطالبها وطموحاتها وأنزل مستواها الاستراتيجي وقدرتها على الردع وهو من يدفع بها إلى الهاوية خطوة بعد خطوة، وبين ما أنتجه المجتمع الإسرائيلي من قادة على شاكلة بن غفير، وما أنتجه المجتمع المقابل، يحسمون أنّ الأمة الإسلامية والعربية أنتجت بنصرالله ألمع عقولها وأشدّها إبهاراً ومهارة وذكاء.

في الحقيقة، لم يمر على كيان العدو ظرف أسوأ من هذا الظرف. وهذا ما انتهت إليه الخلاصات بعد حادثة مجدو، وأعقبها كلام للأمين العام لحزب الله «روحوا بلطوا البحر». قادته يجاهرون ويعترفون بالتحولات الخطيرة التي طرأت على وجوده، سواء بالتقصير أو الخلافات أو بسبب الانزياحات في موازين القوى الإقليمية والعالمية وتراجع صدارة الولايات المتحدة الأميركية عسكرياً واقتصادياً.

حديثهم عن قرب زوال إسرائيل لا يعدو عندهم إلا مسألة وقت، إذ إنّ الكارثة آتية لا ريب فيها، التعويض بالوهم للهروب من الواقع أو العلاج عبر التهديد بـ«معركة بين الحروب» أو «حرب مشكوك بقيمتها ونتائجها» لا يمكن أن يقشع دخان الحريق الذي يشتعل داخل الكيان نفسه.

هم يقرّون أنّ الزمن الحالي أصبح زمن نصرالله بإيقاعه ونبراته، وزمن محور المقاومة بكامل ملامحه وتقسيماته، ومن المنطقي في أحوال من هذا النوع عندما تكون التداعيات فادحة إقليمياً ودولياً، وعندما تنشأ بين دول وشعوب مسلمة من إيران فالعراق واليمن وسورية ولبنان والفلسطينيين في الداخل والخارج، رابطة للمصالح المشتركة، وعندما تتلاقى الإرادة مع الحق، والحركة مع الفرصة، أن تعود فلسطين.

هناك مَن قال: «كل شيء موجود في وقت آخر»، هذا صحيح. وحينها سنعرف مَن المنتصر!

#جريدة_الأخبار

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى