عندما نتحدث عن إيران الإسلام تبرز صورة المؤسس الإمام الراحل الخميني «قدس سره»، إيران الثورة، الاقتصاد المقاوم، إيران المستقلّة الحرّة، إيران الثابتة والراسخة رسوخ الجبال على مبادئها على حساب مصالحها.
سعادة سفير الجمهورية الإسلامية الإيرانية في بيروت الدكتور محمد فتحعلي في حوار خاص لمجلة مرايا الدولية حول الإمام الخميني «قدس سره»:
بداية، ما هي المميزات الفكرية والشخصية التي امتاز بها الإمام الخميني «رض» حتى جعلته رجل الثورة الخالد؟
يحتاج الحديث عن فرادة شخصية الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه إلى مجال أوسع، ولكن في كلمات موجزة يمكن القول إن فرادة شخصية الإمام تكمن في جمعه عدداً من الصفات التي قد تبدو متناقضة، فقد كان حاكماً على الرغم من أن العرفان اقترن إلى درجة كبيرة بالسكون واعتزال الحياة اليومية، وكان حاكماً وسلطاناً يملك التصرف في مقدرات بلد يملك الكثير من الثروات ولكنه كان يعيش حیاة عادیة زاهدیة، كما كان فقيهاً وفيلسوفاً بكل ما تعني هاتان الكلمتان من دقة وحکمة وتبحر فکري.
وكان شاعراً بكل ما تعني كلمة شاعر من خصوبة خيال ورهافة إحساس، إلى غير ذلك من الصفات التي يطول شرحها. إضافة إلی هذا البعد في شخصيته رضوان الله تعالى عليه يمكن الإشارة إلى مجموعة من الصفات كان لها دور كبير في حياته السياسية والجهادية على وجه التحديد.
برأيي أن من أهم صفاته الإخلاص لله سبحانه وتعالی، والمعرفة بالعصر والشجاعة والقدرة على تكييف الزمان والظروف لصالح الأفكار التي يحملها وأخيراً الواقعية الإيجابية التي تجلت في كثير من مواقفه وقراراته.
كيف استطاعت هذه الثورة أن تستنهض إرادة الشعوب المستضعفة؟ وما هو سرّ خلودها وتمسّك الشعب الإيراني بها؟
وفقاً لآراء الإمام الخمیني رضوان الله تعالى عليه الشعب الإيراني المسلم قام بوجه سلطة الشاه وسیاساته المعادیة للإسلام ومصالح الشعب الإیراني والأمة الإسلامیة ولیس لأسباب اقتصادیةکما ثارت بعض الشعوب بل فالشعب الإيراني ثار من أجل أهداف ومقاصد سياسية وفكرية، وهي باختصار تحويل المشروع الإسلامي لإدارة المجتمع إلى حقيقة واقعية.
بالنسبة للسؤال عن سر خلود الثورة، وتمسک الشعب الإيراني بها ممکن أن نقول ثقة الشعب الإيراني بأهدافه ومسیره وقائده إضافة إلی الإمدادات الإلهیة التي جربناها فی کثیر من الأحیان طیلة العقود الماضیة.
تعدّ الثورة الخمينية من أهم المعجزات التي حققها الشعب الإيراني إلا أن بعض النقّاد يعتبرون أنها محصورة بفئة «المسلمين» كونها إسلامية الطابع والمبادئ. إلى أي مدى استطاعت هذه الثورة بفكرها الخميني «قدس سره» أن تكون تجربة عالمية وكونية؟
في ظروف العالمیة التي کانت تعتبر الدین وسيلة تخدير للشعوب المستضعفة،رأى المسلمون أن هذاالدين یمكن أن يكون دين الحياة في مختلف مجالاته السیاسیة والاقتصادیة والثقافیة. ولهذا نجد أنه بعد انتصار الثوره الإسامیة فی إيران زاد انتباه شعوب الإسلامية باتجاه الدین وزادت الحراکات الإسلامیة السیاسیة فی أنحاء العالم الإسلامي.بمعني آخر ثورة الإمام فتحت مسیرة جدیدة أمام الشعوب المسلمة.
انطلاق الثورة الإسلامية من المبادئ والمفاهيم الدينية أعاد الحياة إلى الدين عموماً، وأعاد الثقة به في نفوس الناس جميعاً لأن المبادئ الاجتماعية في الإسلام ليست مبادئ فئوية ولا طائفية، بل هي مبادئ إنسانية، فالعدالة والحرية والتنمية وما شابه هي قيم إنسانية أعطاها الإسلام قداسة بتأكيده إياها، ودعوته للناس جميعاً إليها. فالإسلام يطالب بحرية الإنسان ويدعو إلى العدل مع الإنسان، ولا يرى أن الحرية حق للمسلمين وحدهم ولا العدالة معهم فقط. إضافة إلى کل ما أشرت إنجازات الشعب الإيراني بعد انتصار الثورة الإسلامیة صارت نموذجاً لکل شعب یريد العزة والتقدم في مختلف المجالات.
سعادة السفير، هل لازالت إيران اليوم حافظة لنهج الإمام الخميني «قدس سره» في ظلّ المتغيرات الدولية والاقليمية؟
إن النظر في خطاب القيادة الإيرانية من أعلى المراتب إلى أدناها يكشف أولاً عن أن شعارات الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه ما زالت حية وخطابه ومبادئه الإستراتيجية ما زالت هي الأساس الذي تنطلق منه مواقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ولا يقتصر الأمر على هذا الحد بل إن كثيراً من المواقف التفصيلية ما زالت هي هي على الرغم من كل الضغوط التي تمارس على إيران لحرفها عن المسار الذي رسمه الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه. والأمثلة كثيرة منها موقف إيران من العدو الصهيوني والقضية الفلسطينية ودعم المقاومة ضد الاحتلال الصهیوني، ودعم المستضعفین في العالم في مواجهة المستکبرین، فقد كانت هذه القضايا من استراتيجيات السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في زمن الثورة وما زالت حتى الآن مبدأ لا يمكن التخلي عنه، بالرغم من كل الضغوط التي تمارس علی إيران لهذه المواقف والکلفة الضخمة التی دفعها الشعب الإيراني لهذه القضایا لاسیما القضیة الفلسطینیة المرکزیة من الحصار، وشن الحروب في مختلف المجالات العکسریة والاقتصادیة. والجدیر بالذکر أنّ وقوف إيران بجانب بلدان المنطقة ضد الإرهاب التکفیري یستندعلی نفس المبادیء .لانّ برأینا هذا الإرهاب التکفیري الذي شوّه وجه الإسلام الحنیف وخرّب ودمّر التراث الحضاري للمنطقة، وقتل وهجّر الناس من أوطانهم هو الوجه الآخر للإرهاب الصهیوني، وفي خدمة هذا الکیان الغاصب.
سؤال مشروع.. لماذا اختار الإمام الخميني «قدس سره» فرنسا مقراً له؟ وكيف استطاع من مكان نفيه أن يحرك كل هذه الملايين من مختلف أطياف الشعب الإيراني؟
من المعلوم أن الإمام استقر في النجف فترة من حياته والنجف كحوزة علمية تشبه إلى حد كبير بيئة «قم» وهي المكان الأكثر ملاءمة لفقيه مثل الإمام رضوان الله تعالى عليه، ولكن متابعة الإمام حراكه في النجف جعلت شاه إيران يضغط على النظام العراقي، فخيّر الإمام رضوان الله تعالى عليه بين البقاء ساكتاً وبين الرحيل فاختار الرحيل، وقال لأحد المسؤولين العراقيين في تلك الفترة: «إنني لست من الذين يتخلون عن مواقفهم تحت أي شكل من أشكال الضغط. ولا أحتاج إلى أكثر من هذا البساط الذي أجلس عليه أفرشه في أي مكان من الأرض وأتابع عملي فوقه».
وحاول الإمام في تلك الفترة الهجرة إلى الكويت فمنع من دخولها، واستعرضت سائر الاحتمالات للدول المجاورة للعراق وإيران، وبعد مجموعة من الحسابات السياسية والأمنية رجّحت کفة السفر إلى فرنسا.
من خلال عملكم الدبلوماسي إلى أي مدى كانت شخصية الإمام «قدس سره» وثورته مؤثرة في سياستكم الخارجية؟
السياسة الخارجية لأي دولة هي تجسيد لمبادئها الفكرية التي تنطلق منها، وخاصة في الدول التي تحمل فكراً وتعتنق مبادئ. وبعبارة أخرى ثمة دول ليس عندها سوى المصالح الآنية الاقتصادية والسياسية وغير ذلك. الدول التي تحمل إيديولوجيا ومبادئ فكرية وقيم أخلاقية وثورية تنطلق منها فهي لا تستطيع الانقلاب على هذه المبادئ في سياستها الخارجية.
ومن هنا نحن نرى أنفسنا ملزمين بالعمل بالمبادئ الفكرية التي انطلقت منها الثورة، وملزمون بتحقيق الأهداف والشعارات التي رفعها الإمام ونادى بها الشعب الإيراني، وذلك كلّ مع مراعاة قواعد العمل الدبلوماسي وقوانينه. فلا نتدخل في شؤون الدول الأخرى ولكننا في الوقت نفسه لا نتخلى عن انحيازنا إلى جانب الشعوب المظلومة، ولا يمكننا التخلي عن دعمنا لقضاياها المحقة والعادلة.
ما هي كلمتكم إلى روح الله الخميني «قدس سره» عبر مجلة مرايا الدولية؟
كل ما لدينا كشعب إيراني هو من بركات الإمام وثمار حركته المقدسة. واليوم، وفي ظل القيادة الحكيمة للولي القائد الإمام الخامنئي «دام ظله» لا يسعني إلا التأكيد على أن مبادئ الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه وشعاراته ما زالت حیة نابضة كما لو أنها تطلق اليوم، وإن إرشاداته ونصائحه ما زالت تصلح للعمل بها حتى بعد مضي ما يزيد على الثلاثين عاماً من عمر الثورة.
وفي الختام أقول للإمام إن شجرة ثورتك أيها الإمام الخميني العظيم صارت أكثر تجذّراً وأورف ظلالاً، والثورة التی لم يتمكن الأعداء من القضاء عليها في مهدها لن يكونوا قادرين على القضاء عليها وقد اشتد عودها. وهنا لا أتحدث عن القوة العسكرية فحسب، بل أتحدث عن قوة التجربة على المستوى الاجتماعي والفكري وعن تأصّل القيم والمبادئ الثورية في نفوس الناس، بحيث إن ما كان يحتاج الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه إلى إقناع الناس به وإثباته لهم بالحجة والدليل صار بديهياً وجزءاً من عقيدتهم الفكرية